حين ساد الظّلم و الاستبداد، و اختفت شمس الحرية خلف غمام الاستعباد، و انحشر الإسلام في قلوب المسلمين واعدًا إياهم بنصر الله للعباد... ظهر هو، ليعيد للدّين مجده و للعربية شموخها، بعد سنين نهش فيها الجهل و الأمية عقول الجزائريين، و عاد فيها الإسلامُ سرًّا كما جاء سرًّا...
هو الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس الجزائري -رحمه الله-، رائد النّهضة الإسلامية الإصلاحية في الجزائر. ولد في 04-12-1889م . ظهرت عليه معالم النّباهة منذ صغره. أتمّ حفظ القرآن و هو ابن ثلاث عشرة سنة، و انطلق بعدها في رحلة طلب العلم في مسقط رأسه "قسنطينة"، وبعدها في جامع الزيتونة بتونس ثم الحجاز. و بعد حطّه الرّحال في المدينة المنوّرة، أُعجِبَ به شيوخه و نصحوه بالعودة إلى بلاده و خدمتها. لم تلبث هذه الفكرة أن التمعت في ذهنه، و بدأ فعلا بإعداد خطط رفقة العالم الجزائري محمد البشير الإبراهيمي عازما على إنقاذ أهل بلاده مما آلوا إليه.و هكذا عزم، و بهذا وفّى. عاد إلى الجزائر حاملا على عاتقه مهمّة خدمة الدّين و اللغة، كما قال: "إنني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما، وإنها لواجبات، وإنني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم، وأطلب منكم شيئا واحدا وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن". و لم تفتر همّته أو تخفت إرادته أبدا، بل كلّما ضَيّق عليه الاحتلال طريقا و أوصد في وجهه بابا، عرّج على طريق آخر و فتح أبوابا أخرى. بدأ أولا بتعليم الصّغار ثم الكبار في المسجد، و قد كان إماما مفسّرا للقرآن الكريم، كما شرح الموطّأ في حلقاته، و لم يتوقّف عند هذا الحدّ بل قام بنشر الوعي عبر الجرائد و المجلّات التي كلّما جُمّد نشاط إحداها أنشأ غيرها، و اتّخذ مقولة الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" شعارا لها. كما كان له دور في إنشاء المدارس، و قام بإرسال الوُعّاظ إلى المدن و القرى لتوعية الناس، فضلا عن تأسيسه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و نظمه للأشعار التي تبثّ الحَميّة في النّفوس.
رحل رحمه الله في 16-04-1940م ، و قيل عنه "خلّف الرّجال و لم يُخلّف الكتب"، إلّا أنّ تلامذته جمعوا ما استقَوْا منه في مؤلفات تشهد على خدمته لهذا الدّين.
العبرة من حياة هذا الرّجل العظيم، هي ألّا نوضّب جميعا حقائبنا في أوقات الأزمات و نهرب إلى حيث الرّخاء... لماذا لا تكون أنت التّغيير؟ اعزم و توكّل فقد يكتب الله الإصلاح على يديك.
و تأمّلوا حنكته في البدء بتربية الصّغار قبل الكبار، لأنّهم هم اللِّينة التّي إن أَحسننا سُقياها صارت نباتا حسنا مباركا. و قد وَثّق هذا الأمرَ في قصيدته الشّهيرة "شعبُ الجزائرِ مسلمٌ" إذ قال:
"يا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤنَا***و بِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقتَرَبْ
خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلَاحَهَا***و خُضِ الخُطُوبَ و لا تَهَبْ".
تعليقات
إرسال تعليق